لا يقتصر دور اللغة على كونها وسيلة تواصل بين البشر وحسب، بل هي مرآة تعكس الثقافة والهوية. لطالما كانت اللغة على مر العصور ركيزة أساسية لنهوض الحضارات ووسيلة لصون المآثر والإنجازات التاريخية، فهي تشكل أداة التواصل في المجتمعات ومشكاة تعرّف الأجيال اللاحقة إلى السابقة، والنسيج
الذي يحاك به السلوك الإنساني. واللغة هي النسيج الذي يُحاكُ به سلوك الأفراد والجماعات، وذلك لأنها أداة التواصل في المجتمعات ومشكاة تعرّف الأجيال اللاحقة إلى السابقة. اللغة العربية كنز مكنون يفخر به العرب بفضل إرثها العريق باعتبارها إحدى أقدم اللغات التي نطقت بها شعوب الأرض، وهي تمتاز بغزارة مفرداتها ودقة معانيها وسلامة منطقها. يرى العرب في اللغة العربية رمزاً للفصاحة والبيان، ولذلك فهم يطلقون لفظة "العجم" على الشعوب التي لا تتحدّث بلسانهم العربي الفصيح، وليس فقط على الشعوب التي تنحدر من أصول غير عربية.
هنالك ترابط جوهري بين تاريخ اللغة العربية وتاريخ العرب، وقد شهدت اللغة العربية تغيّرا جذريّاَ منذ بزوغ فجر الإسلام. وكان للقرآن الكريم، من خلال إعجازه اللغوي كوحي إلهي ينطق بلسان عربي، الدّور الأبرز في نهضة الحضارة العربية عبر التاريخ، ولاحقاً في إرساء أسس اللغة العربية المعاصرة.
تحظى اللغة العربية اليوم باعتراف وتقدير دوليين، ففي الثامن عشر من ديسمبر 1973، اعتمدت الجمعية العامة للأمم المتحدة اللغة العربية كلغة رسمية سادسة في الأمم المتحدة. وقد أصبح هذا التاريخ لاحقاَ يعرف باليوم العالمي للغة العربية. ولا يُحتفى باللغة العربية لأنها لغة مئات الملايين من الناس فقط، بل لأنها مثلت حجر الأساس الذي أسهم في بناء الحضارة العالمية الحالية.
وقد كان لهذا اللسان شأن عظيم بين حضارات الدنيا وشعوبها على مر التاريخ، وما زالت العربيّة حاضرة في ثقافات العالم حتى يومنا هذا. شهدت نهضة العرب التاريخية اكتشافات علمية وإنجازات أدبية قيّمة، حيث اغتنمت شعوب العالم هذا التراث العربي الأصيل، فترجمت مؤلفات العلماء العظام من أمثال جابر بن حيان وابن الهيثم وابن سينا وابن خلدون وغيرهم إلى مختلف اللغات فكانت إسهاماتهم أساس عصر النهضة العالمية.
ومكّن جمال اللسان العربي الناطقين به من تأليف أجمل أبيات الشعر على الإطلاق. ويدرك ذلك جيّداً العرب الذين تمرسوا في دراسة العربية وآدابها، وغيرهم من العجم الذين وجدوا فيها سبيلاً إلى خوض غمار أسمى المعاني واستخلاص أنبل القيم وأرقى التعابير الشعرية. فالشعر العربي يمتاز بنظمه الموزون ومفرداته البليغة ومعانيه النفيسة، ممّا جعله آية في الحسن لا تكاد تُضاهيها أشعار لغات العالم الأخرى.
وقد وصف المستشرق الفرنسي وليم مرسيه اللغة العربية باعتبارها أداة موسيقيّة تُعزف لتصغي لها الآذان وتطرب. يقول وليم: "العبارة العربية كالعود إذا نقرت على أحد أوتاره رنت لديك جميع الأوتار وخفقت، ثم تحرك اللغة في أعماق النفس من وراء حدود المعنى المباشر موكباً من العواطف والصور".
كما تغنّى المؤرخ البلجيكي جورج سارتون بجمال اللغة العربية وفصاحتها قائلاً: "وهبَ الله اللغة العربية مرونةً جعلتها قادرةً على أن تدون الوحي أحسن تدوين بجميع دقائق معانيه ولغاته، وأن تعبر عنه بعباراتٍ عليها طلاوة وفيها متانة". ولا يوجد مدح أفضل وأوجز من تعبير أمير الشعراء أحمد شوقي عن عشقه للغة العربية بقوله:
إن الذي ملأ اللغات محاسناً * جعل الجمال وسرَّهُ في الضادِ
وأمّا بالنسبة للأديب المصري عبّاس العقّاد، فقد ألّف في محاسن اللغة العربيّة كتاباً سمّاه "اللغة الشاعرة" وبيّن فيه تميّزها عن سائر اللغات من خلال تفرّدها بحروف صوتية غير موجودة في أي لغة أخرى، وقدرتها على سلب الألباب وأسر القلوب بفضل قوافيها وأوزانها الشعرية البديعة.
وحينما يقول العقّاد إن العربية "لغة شاعرة" فهو يقصد بذلك أنها لغة ذات موسيقى تريح الإنسان وتجعله راغبًا في سماعها. وقد أشار العقاد إلى أن العربية تمتاز بأصواتها التي تفي بجميع المخارج الصوتيّة، إضافة إلى بعض حروفها التي لا توجد في لغة سواها كالذال والضاد والظاء. كما تمتاز اللغة العربية بشعرها المقفى الذي يجمع بين البلاغة وجزالة المفردات وعمق المعاني.
تحظى اللغة العربية اليوم بدعم لا مثيل له في دولة الإمارات العربية المتحدة التي لا تدخر جهداً في إحياء اللسان العربي ورفع مكانته بين الأمم. وضمن هذا الإطار، يدعم المركز اللغة العربية في جميع مناحي استخدامها ضمن المجالات الفنية والإبداعية والثقافية والتعليمية والعلمية لتعزيز مكانة اللغة العربية وانتشارها على المستويين الإقليمي والدولي.
ومن الأمثلة الشاهدة على هذه المبادرات التي تم إطلاقها للناطقين باللغة العربية وغير الناطقين بها، مشروع "كلمة" للترجمة الذي يهدف الى إحياء حركة ترجمة النصوص الأدبية والعلمية في منطقة الشرق الأوسط، بالإضافة إلى تحفيز حركة التأليف والنشر من خلال جائزة الشيخ زايد للكتاب وجائزة كنز الجيل. وعلى صعيد تفعيل الحراك البحثي الأكاديمي في اللغة العربية، أطلق المركز برنامج المنح البحثية في مجال اللغة العربية الذي يهدف إلى تعزيز جهود البحث النوعي في مختلف مجالات الثقافة والفكر، وتشجيع دراسة التراث العربي.
يأتي هذا الى جانب إطلاق مجلة "المركز: مجلة الدراسات العربية" التي تصدر عن مركز أبوظبي للغة العربية بالتعاون مع دار "بريل" للنشر، وتم إصدار أول عدد منها في شهر مايو 2022. كما يعمل المركز على تطوير اللغة العربية في الفضاء الرقمي، حيث قام باستحداث موقع إلكتروني مخصص لمعجم رقمي لمفردات اللغة العربية الفصحى والمصطلحات الحديثة والمتجددة لتوفير مرجع موثوق يساهم في تطور اللغة العربية لمواكبة الركب التكنولوجي المتسارع عالمياً.
أما من حيث تطوير اللغة في الفضاء الرقمي، فيعمل المركز أيضاً على استحداث معجم حديث رقمي لمفردات اللغة العربية الفصحى، قابل للتوسع والتطور ليشمل المصطلحات الحديثة والمتجددة في اللغة العربية للوصول الى مرجع معتمد يساهم في تطور اللغة العربية في مجالات العلوم والثقافة ومواكبة الركب التكنولوجي المتسارع عالمياً. كما ونظم المركز عدداً من الأنشطة والفعاليات الثقافية ويشجع صناعة النشر من خلال تنظيم معارض كتب عالمية كمعرض أبوظبي الدولي للكتاب.